أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٥٨
والمسكين الصحيح منهم ". وقيل: إن الفقير هو المسكين إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره في استحقاق الصدقة. وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: " المسكين هو الذي لا شيء له والفقير هو الذي له أدنى بلغة "، ويحكى ذلك عن أبي العباس ثعلب، قال: وقال أبو العباس: حكي عن بعضهم أنه قال: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا بل مسكين، وأنشد عن ابن الأعرابي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد فسماه فقيرا مع وجود الحلوبة. قال: وحكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس النحوي أنه قال: " الفقير يكون له بعض ما يغنيه والمسكين الذي لا شيء له ".
قال أبو بكر: قوله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) [البقرة: 273] يدل على أن الفقير قد يملك بعض ما يغنيه لأنه لا يحسه الجاهل بحاله غنيا إلا وله ظاهر جميل وبزة حسنة، فدل على أن ملكه لبعض ما يغنيه لا يسلبه صفة الفقر. وكان أبو الحسن يستدل على ما قال في صفة المسكين بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المسكين ليس بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه "، قال: فلما نفى المبالغة في المسكنة عمن ترده التمرة والتمرتان وأثبتها لمن لا يجد ذلك وسماه مسكينا، دل ذلك على أن المسكين أضعف حالا من الفقير.
قال: ويدل عليه قوله تعالى: (أو مسكينا ذا متربة) [البلد: 16]، روي في التفسير أنه الذي قد لزق بالتراب وهو جائع عار لا يواريه عن التراب شيء، فدل ذلك على أن المسكين في غاية الحاجة والعدم.
فإن قيل: قال الله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) [الكهف: 79] فأثبت لهم ملك السفينة وسماهم مساكين. قيل له: قد روي أنهم كانوا أجراء فيها وأنهم لم يكونوا ملاكا لها، وإنما نسبها إليهم بالتصرف والكون فيها، كما قال الله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي) [الأحزاب: 53] وقال في موضع آخر: (وقرن في بيوتكن) [الأحزاب: 33]، فأضاف البيوت تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة إلى أزواجه، ومعلوم أنها لم تخل من أن تكون ملكا له أو لهن، لأنه لا يجوز أن تكون لهن وله في حال واحدة، لاستحالة كونها ملكا لكل واحد منهم على حدة، فثبت أن الإضافة إنما صحت لأجل التصرف والسكنى، كما يقال: " هذا منزل فلان " وإن كان ساكنا فيه غير مالك له، " وهذا مسجد فلان " ولا يراد به الملك، وكذلك قوله: (أما السفينة فكانت لمساكين) [الكهف: 79] هو على هذا المعنى.
(١٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 ... » »»