أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٤٧
أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين. وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم، ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى كان بإزاء العدو مقاومين له ولا يخافون غلبة العدو عليهم هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة أنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم وأن يقعدوا عنهم، وقال آخرون: " على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية "، وهو مذهب أصحابنا ومن ذكرنا من السلف المقداد بن الأسود وأبو طلحة في آخرين من الصحابة والتابعين. وقال حذيفة بن اليمان:
" الاسلام ثمانية أسهم " وذكر سهما منها الجهاد. وحدثنا جعفر بن محمد: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال:
قال معمر: كان مكحول يستقبل القبلة ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب، ثم يقول:
إن شئتم زدتكم. وحدثنا جعفر قال: حدثنا جعفر: حدثنا أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث أو غيره عن ابن شهاب قال: " كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا، فمن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد "، وهذا مثل قول من يراه فرضا على الكفاية. وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضه متعينا على كل أحد كالصلاة والصوم وأنه فرض على الكفاية.
والآيات الموجبة لفرض الجهاد كثيرة، فمنها قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) [البقرة: 193] فاقتضى ذلك وجوب قتالهم حتى يجيبوا إلى الاسلام، وقال: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم) الآية، وقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية، وقال: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) [محمد: 35]، وقال: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، و (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)، وقال: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)، وقال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم)، وقال: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) [النساء: 71]، وقال: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) [الصف: 10 و 11]، فأخبر أن النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال، فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين، أحدهما: أنه قرنه إلى فرض الإيمان، والآخر: الإخبار بأن
(١٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 152 ... » »»