أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٥١
يحتمله اللفظ، فالواجب أن يعمها، إذ لم تقم دلالة التخصيص.
وقوله: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما أن من له قوة وجلد وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه، ومن قوي على القتال وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال، ومن كان عاجزا بنفسه معدما فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله).
وقوله تعالى: (ذلكم خير لكم)، مع أنه لا خير في ترك الجهاد قيل فيه وجهان، أحدهما: خير من تركه إلى المباح في الحال التي لا يتعين عليه فرض الجهاد، والآخر:
أن الخير فيه لا في تركه.
وقوله تعالى: (إن كنتم تعلمون)، قيل فيه: إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير، وقيل: إن كنتم تعلمون صدق الله فيما وعد به من ثوابه وجنته.
قوله تعالى: (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) الآية. لما أكذبهم الله في قوله: (لو استطعنا لخرجنا معكم) دل على أنهم كانوا مستطيعين ولم يخرجوا.
وهذا يدل على بطلان مذهب الجبر في أن المكلفين غير مستطيعين لما كلفوا في حال التكليف قبل وقوع الفعل منهم، لأن الله تعالى قد أكذبهم في نفيهم الاستطاعة عن أنفسهم قبل الخروج. وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر أنهم سيحلفون، فجاؤوا فحلفوا كما أخبر أنه سيكون منهم.
قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا). العفو ينصرف عن وجوه، أحدها: التسهيل والتوسعة، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله ". والعفو الترك، كقوله صلى الله عليه وسلم: " احفوا الشوارب واعفوا اللحى "، والعفو الكثرة، كقوله تعالى: (حتى عفوا) [الأعراف: 95] يعني: كثروا، وأعفيت فلانا من كذا وكذا إذا سهلت له تركه، والعفو الصفح عن الذنب، وهو إعفاؤه من تبعته وترك العقاب عليه، وهو مثل الغفران في هذا الموضع، وجائز أن يكون أصله التسهيل، فإذا عفا عن ذنبه فلم يستقص عليه وسهل عليه الأمر، وكذلك سائر الوجوه التي تنصرف عليها هذه الكلمة يجوز أن يكون أصلها الترك والتوسعة. ومن الناس من يقول: إنه قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم ذنب صغير في إذنه لهم، ولهذا قال الله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت
(١٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 146 147 148 149 150 151 152 153 154 155 156 ... » »»