أحكام القرآن - الجصاص - ج ٣ - الصفحة ١٤٦
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: " لا هجرة ولكن جهاد ونية وإن استنفرتم فانفروا "، فأمر بالنفير عند الاستنفار، وهو موافق لظاهر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)، وهو محمول على ما ذكرنا من الاستنفار للحاجة إليهم لأن أهل الثغور متى اكتفوا بأنفسهم ولم تكن لهم حاجة إلى غيرهم فليس يكادون يستنفرون، ولكن لو استنفرهم الإمام مع كفاية من في وجه العدو من أهل الثغور وجيوش المسلمين لأنه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا.
وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء في فرض الجهاد، فحكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أن الجهاد تطوع وليس بفرض، وقالوا: (كتب عليكم القتال) [البقرة: 216] ليس على الوجوب بل على الندب، كقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) [البقرة: 180]. وقد روي فيه عن ابن عمر نحو ذلك، وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا علي بن معبد عن أبي المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال: كنت عند ابن عمر، فجاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الفرائض وابن عمر جالس حيث يسمع كلامه، فقال: " الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان والجهاد في سبيل الله "، قال: فكأن ابن عمر غضب من ذلك، ثم قال: " الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان " قال: وترك الجهاد. و روي عن عطاء وعمرو بن دينار نحوه، حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس؟ فقال هو وعمرو بن دينار ما علمناه. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار: " إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة، إلا أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه ". وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول: " ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزي فيه بعضهم على بعض "، فإن كان هذا قول سفيان فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية، وهو موافق لمذهب أصحابنا الذي ذكرناه. ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم
(١٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 141 142 143 144 145 146 147 148 149 150 151 ... » »»