أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٧٤
فإن قيل قوله تعالى: (فكلوه هنيئا مريئا) يدل على أن المراد فيما تعين من المهر، إما أن يكون عرضا بعينه فقبضته أو لم تقبضه أو دراهم قد قبضتها، فأما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له، إذ لا يقال لما في الذمة كله هنيئا مريئا. قيل له: ليس المراد في ذلك مقصورا على ما يتأتى فيه الأكل دون مالا يتأتى، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خاصا في المهر إذا كان شيئا مأكولا، وقد عقل من مفهوم الخطاب أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره، لأن قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) عام في المهور كلها سواء كانت من جنس المأكول أو من غيره، وقوله تعالى: (فكلوه هنيئا مريئا) شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها، فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في ذلك وأن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها، وقال الله تعالى:
(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) [النساء: 10] وقال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) [البقرة: 188]، وهو عموم في النهي عن سائر وجوه التصرف في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول، وشامل للنهي في أخذ أموال الناس إلا على وجه التجارة عن تراض، وليس المأكول بأولى بمعنى الآية من غيره. وإنما خص الأكل بالذكر لأنه معظم ما يبتغى له الأموال، إذ به قوام بدن الانسان، وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه، وهذا كقوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) [الجمعة: 9] فخص البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في النهي، لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم، فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أولى بالنهي إذ قد نهاهم عما هم إليه أحوج والحاجة إليه أشد، وكما قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة: 3] فخص اللحم بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به، فكان في تحريمه أعظم منافعه دلالة على ما دونه، فكذلك قوله تعالى:
(فكلوه هنيئا مريئا) قد اقتضى جواز هبتها للمهر من أي جنس كان عينا أو دينا قبضته أو لم تقبضه. ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها للمهر إذا كان مقبوضا معينا فكذلك حكمه إذا كان دينا، لأنه قد ثبت جواز تصرفها في مالها، فلا يختلف حكم العين والدين فيه، ولأن أحدا لم يفرق بينهما. وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت هبة المرأة للمهر وهو دين، ويدل أيضا على أن من وهب لإنسان دينا له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة، لأن الله تعالى قد حكم بصحته وأسقطه عن ذمته. ويدل على أن من وهب لإنسان مالا فقبضه وتصرف فيه أنه جائز له ذلك وإن لم يقل بلسانه قد قبلت، لأن الله تعالى قد أباح له أكل ما وهبته من غير شرط القبول، بل يكون التصرف فيه
(٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 ... » »»