أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٧٩
عام في سائر هذه الوجوه، وليس لأحد أن يقتصر بالاختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ، والاختبار في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشرى وضبط أموره وحفظ ماله لا يكون إلا بإذن له في التجارة، ومن قصر الابتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال فقد خص عموم اللفظ بغير دلالة.
فإن قيل: الذي يدل على أنه لم يرد الإذن له في التصرف في حال الصغر قوله تعالى: في نسق التلاوة: (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)، وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع المال إليه في حال الصغر، والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ وإيناس الرشد.
قيل له: ليس الإذن له في التجارة من دفع المال إليه في شئ، لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى، وذلك ممكن بغير مال في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه، فنقول: إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه، ومن الابتلاء الإذن له في التجارة وإن لم يدفع إليه مالا، ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه، ولو كان الابتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان للإبتلاء وجه قبل البلوغ، فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف، ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى، ومعلوم أن الله تعالى أمر بالاحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف، فوجب أن يكون الابتلاء المأمور به قبل البلوغ مأمورا بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب. وأيضا فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ لأنه محجور عليه فالإبتلاء إذا ساقط من هذا الوجه، فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره بذلك، فإن وجب اختباره فقد أجزت له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ إلى إيناس الرشد، فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجور عليه بعد البلوغ فقد أخرجته من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ وهو مأذون له، فهلا أذنت له قبل البلوغ في التجارة لاستبراء حاله كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد! وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يعلم إيناس الرشد منه؟ فقول المخالف لا يخلو من ترك الابتلاء أو دفع المال قبل إيناس الرشد.
ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما روي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إياه "، وروى عبد الله بن شداد: " أنه أمر سلمة بن أبي سلمة بذلك وهو صغير "، وفي ذلك دليل على جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه
(٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 ... » »»