أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٧١
أيمانكم يقتضي حقيقته وظاهره إيجاب التخيير بين أربع حرائر وأربع إماء بعقد النكاح، فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرة والأمة، وذلك لأن قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) كلام غير مستقل بنفسه بل هو مضمن بما قبله، وفيه ضمير لا يستغنى عنه، وضميره ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب، وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر إلا بدلالة من غيره، فلم يجز لنا أن نجعل الضمير في قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) الوطء، فيكون تقديره: قد أبحت لكم وطء ملك اليمين، لأنه ليس في الآية ذكر الوطء وإنما الذي في أول الآية ذكر العقد، لأن قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم) لا خلاف أن المراد به العقد، فوجب أن يكون قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) ضميره، أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم، وذلك النكاح هو العقد، فالضمير الراجع إليه أيضا هو العقد دون الوطء.
فإن قيل: لما صلح أن يكون النكاح اسما للوطء ثم عطف عليه قوله: (أو ما ملكت أيمانكم) صار كقوله: فانكحوا ما ملكت أيمانكم، فيكون معناه الوطء في هذا الموضع وإن كان معناه العقد في أول الخطاب. قيل له: لا يجوز هذا، لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بديا في أول الخطاب فوجب أن يكون بعينه ومعناه المراد به ضميرا فيه، فإذا كان النكاح المذكور هو العقد فكأنه قيل: فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم، فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد إذ لم يجز للوطء ذكر من جهة المعنى ولا من طريق اللفظ، فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه وإن كان اسم النكاح قد يتناوله. ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر النكاح إلا ما تقدم في أولها وثبت أن المراد به العقد لم يجز أن يكون ضمير ذلك اللفظ بعينه وطئا لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازا حقيقة، لأن أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازا والآخر حقيقة، ولا يجوز أن ينتظمهما لفظ واحد، فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بديا في الآية.
فإن قيل: الذي يدل على أن ضميره هو الوطء دون العقد إضافته لملك اليمين إلى المخاطبين، ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه ويجوز له وطء ملك يمينه، فعلمنا أن المراد الوطء دون العقد. قيل له: لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير، كقوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) [النساء: 25]، فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم، والخطاب متوجه إلى كل واحد في إباحة تزويج ملك غيره، كذلك قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم محمول على هذا المعنى، فليس إذا فيما ذكرت دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب، فوجب أن يكون ضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو عقد النكاح.
(٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 ... » »»