أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٧٣
باب هبة المرأة المهر لزوجها قال الله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا). روي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) قالا: " فريضة "، كأنهما ذهبا إلى نحلة الدين وأن ذلك فرض فيه. وروي عن أبي صالح في قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) قال: " كان الرجل إذا زوج موليته أخذ صداقتها فنهوا عن ذلك "، فجعله خطابا للأولياء أن لا يحبسوا عنهن المهور إذا قبضوها. إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها فريضة، وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث فريضة من الله. قال بعض أهل العلم: إنما سمي المهر نحلة والنحلة في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه، لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج؟ فإنما سمي المهر نحلة لأنه لم يعتض من قبلها عوضا يملكه، فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل، وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى: (نحلة) يعني:
بطيبة أنفسكم، يقول لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهن ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان المهر لهن دونكم. قال أبو بكر: فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه، فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه.
ويحتج بقوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) في إيجاب كمال المهر للمخلو له بها لاقتضاء الظاهر له، وأما قوله تعالى: (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) فإنه يعني عن المهر، لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه. قال قتادة في هذه الآية: " ما طابت به نفسها من غير كره فهو حلال "، وقال علقمة لامرأته:
أطعميني من الهنئ المرئ. فتضمنت الآية معاني: منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حق للولي فيه. ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه. ومنها جواز هبتها المهر للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى: (فكلوه هنيئا مريئا). ومنها تساوي حال قبضها للمهر وترك قبضها في جواز هبتها للمهر، لأن قوله تعالى: (فكلوه هنيئا مريئا) يدل على العينين، ويدل أيضا على جواز هبتها للمهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بينهما.
(٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 ... » »»