أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٨٥
يحتسب بالمشروط للمضارب من ذلك من مال المريض إن مات من مرضه، وأن ذلك ليس بمنزلة ما لو استأجره بأكثر من أجرة مثله فيكون ذلك من الثلث، فليس إذا في أخذه ربح المضاربة أخذ شئ من مال اليتيم.
فإن قيل: هلا كان الوصي في ذلك كسائر العمال والقضاة الذين يعملون ويأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين! فكذلك الوصي إذا عمل لليتيم جاز له أخذ رزقه بقدر عمله. قيل له: لا خلاف بين الفقهاء أن الوصي لا يجوز له أخذ شئ من مال اليتيم لأجل عمله إذا كان غنيا، وقد حظر ذلك عليه نص التنزيل في قوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف)، ولا خلاف مع ذلك أن القضاة والعمال جائز لهم أخذ أرزاقهم مع الغني، فلو كان ما أخذه ولي اليتيم من ماله يجري مجرى رزق القضاة والعمال جاز له أن يأخذه في حال الغنى، فدل ذلك على أن ولي اليتيم لا يستحق رزقا من ماله، ولا خلاف أيضا أن القاضي لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئا وإليه القيام بأمر الأيتام، فثبت بذلك أن سائر الناس ممن لهم الولاية على الأيتام لا يجوز لهم أخذ شئ من أموالهم لا قرضا ولا غيره كما لا يأخذه القاضي فقيرا كان أو غنيا.
فإن قيل: فما الفرق بين رزق القاضي والعامل وبين أخذ ولي اليتيم من ماله مقدار الكفاية وبين أخذ الأجرة؟ قيل له: إن الرزق ليس بأجرة لشئ وإنما هو شئ جعله الله له ولكل من قام بشئ من أمور المسلمين، ألا ترى أن الفقهاء لهم أخذ الأرزاق ولم يعملوا شيئا يجوز أخذ الأجرة عليه؟ لأن اشتغالهم بالفتيا وتفقيه الناس فرض، ولا جائز لأحد أخذ الأجرة على الفروض، والمقاتلة وذريتها يأخذون الأرزاق وليست بأجرة، وكذلك الخلفاء، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس والفئ وسهم من الغنيمة إذا حضر القتال، وغير جائز لأحد أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يأخذ الأجر على شئ مما يقوم به من أمور الدين، وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) [ص: 86] و (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) [الشورى:
23]، فثبت بذلك أن الرزق ليس بأجرة. ويدلك على هذا أنه قد تجب للفقراء والمساكين والأيتام في بيت المال الحقوق ولا يأخذونها بدلا من شئ، فأخذ الأجرة للقاضي ولمن قام بشئ من أمور الدين غير جائز، وقد منع القاضي أن يقبل الهدية. وسئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى: (أكالون للسحت) [المائدة: 42] أهو الرشا؟ قال: " لا، ذاك كفر إنما هو هدايا العمال "، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هدايا الأمراء غلول ".
فالقاضي ممنوع من أخذ الأجرة على شئ من أمر القضاء ومحظور عليه قبول الهدايا، وتأولها السلف على أنها السحت المذكور في كتاب الله تعالى. وولي اليتيم لا يخلو فيما
(٨٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 ... » »»