أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٧٢
وفيما وصفنا دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزوج الأمة والحرة لمن يستطيع أن يتزوج حرة، لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على حاله، فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع وجود الطول إلى الحرة، أحدهما: عموم قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)، وذلك شامل للحرائر والإماء لوقوع اسم النساء عليهن، والثاني: قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) وذلك يقتضي التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج، وقد قدمنا دلالة قوله تعالى: (ولأمة مؤمنة خير من مشركة) [البقرة: 221] على ذلك في سورة البقرة. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) [النساء: 24]، وذلك عموم شامل للحرائر والإماء، وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة.
وأما قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا) فإن ابن عباس والحسن ومجاهد وأبا رزين والشعبي وأبا مالك وإسماعيل وعكرمة وقتادة قالوا: " يعني لا تميلوا عن الحق ".
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك الغفاري: " ذلك أدنى ألا تعولوا: أن لا تميلوا ". وأنشد عكرمة شعرا لأبي طالب:
بميزان صدق لا يخس شعيرة * ووزان قسط وزنه غير عائل قال: غير مائل. قال أهل اللغة: أصل العول المجاوزة للحد، فالعول في الفريضة مجاوزة حد السهام المسماة، والعول الميل الذي هو خلاف العدل لخروجه عن حد العدل، وعال يعول إذا جار، وعال يعيل إذا تبختر، وعال يعيل إذا افتقر، حكى لنا ذلك أبو عمر غلام ثعلب. وقال الشافعي في قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا) معناه: أن لا يكثر من تعولون، قال: وهذا يدل على أن على الرجل نفقة امرأته. وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه لا خلاف بين السلف وكل من روي عنه تفسير هذه الآية أن معناه: أن لا تميلوا وأن لا تجوروا، وأن هذا الميل هو خلاف العدل الذي أمر الله به من القسم بين النساء. والثاني: خطأوه في اللغة لأن أهل اللغة لا يختلفون في أنه لا يقال في كثرة العيال " عال يعول " ذكره المبرد وغيره من أئمة اللغة، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: أن لا تعولوا، قال: إن لا تجوروا، يقال علت على أي جرت.
والثالث: أن في الآية ذكر الواحدة أو ملك اليمين، والإماء في العيال بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه لم يرد كثرة العيال وأن المراد نفي الجور والميل بتزوج امرأة واحدة إذ ليس معها من يلزمه القسم بينه وبينها إذ لا قسم للإماء بملك اليمين، والله أعلم.
(٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 ... » »»