أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٦٣
أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه. وهذا وجه سائع من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما، ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه اسقاط حكم الآية الأخرى رأسا، وهو قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم) من غير شرط لإيناس الرشد فيه، لأن الله تعالى أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة، ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة وأمكننا استعمالهما على فائدتهما ولم يجز لنا الاقتصار بهما على فائدة إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى. ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه لقوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم) وقال في نسق التلاوة: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض، إذ كان قوله: (فأشهدوا عليهم) قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها، وفي ذلك دلالة على نفي الحجر وجواز التصرف، لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره، ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار.
وأما قوله تعالى: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)، فإنه روي عن مجاهد وأبي صالح: " الحرام بالحلال أي لا تجعل بدل رزقك الحلال حراما تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتجر فيه لنفسك أو تحبسه وتعطيه غيره، فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله تعالى، ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها "، وهذا يدل على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشرى لليتيم لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطي اليتيم غيره. وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء، لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه، فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله وهو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبي حنيفة، لقوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الأنعام: 152، والإسراء: 34]. وقال سعيد بن المسيب والزهري والضحاك والسدي في قوله: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) قالوا: " لا تجعلوا الزائف بدل الجيد والمهزول بدل السمين ".
وأما قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)، فإنه روي عن مجاهد والسدي: " لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم مضيفين لها إلى أموالكم "، فنهوا عن خلطها بأموالهم على وجه الاستقراض لتصير دينا في ذمته فيجوز لهم أكلها وأكل أرباحها.
قوله تعالى: (إنه كان حوبا كبيرا). قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة:
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»