ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه ". وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح "، قال الحميدي: الكاشح العدو. ورواه أيضا سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ". وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصدقة على المسلمين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان لأنها صدقة وصلة ".
قال أبو بكر: فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدقة وصلة، وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة، فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أبا كان الواهب أو غيره، لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها، كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصح الرجوع فيها، كذلك الهبة لذي الرحم المحرم، ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وهبه للابن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم، إذ كانت بمنزلة الصدقة، إلا أن يكون الأب محتاجا فيجوز له أخذه كسائر أموال الابن.
فإن قيل: لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره، فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كابن العم والأباعد من أرحامه. قيل له: لو اعتبرنا كل من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم، لأنهم ذووا أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام، وهذا فاسد فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد النكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة، لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة الأجنبيين، وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمنى وهو يقول: " أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك "، فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك، فدل على صحة ما ذكرنا. وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصله، وليس في تأكيد من قرب كما يؤمر بالإحسان إلى الجار، ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة، فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين، والله أعلم بالصواب.