أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٥
عليهم أرواحهم بعد الموت لجاز القول بالرجعة ومذهب أهل التناسخ. قال أبو بكر:
وقال الجمهور: " إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فينيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق، ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة " لأنه أخبر أنهم أحياء، وذلك يقتضي أنهم أحياء في هذا الوقت، ولأن تأويل من تأوله على أنهم أحياء في الجنة يؤدي إلى إبطال فائدته، لأن أحدا من المسلمين لا يشك أنهم سيكونون أحياء مع سائر أهل الجنة، إذ الجنة لا يكون فيها ميت. ويدل عليه أيضا وصفه تعالى لهم بأنهم فرحون على الحال بقوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله). ويدل عليه قوله تعالى: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) وهم في الآخرة قد لحقوا بهم. وروى ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طيور خضر تحت العرش ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش "، وهو مذهب الحسن وعمرو بن عبيد وأبي حذيفة وواصل بن عطاء، وليس ذلك من مذهب أصحاب التناسخ في شئ، لأن المنكر في ذلك رجوعهم إلى دار الدنيا في خلق مختلفة، وقد أخبر الله تعالى عن قوم أنه أماتهم ثم أحياهم في قوله: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) [البقرة: 243]، وأخبر أن إحياء الموتى معجزة لعيسى عليه السلام، فكذلك يحييهم بعد الموت ويجعلهم حيث يشاء.
وقوله تعالى: (عند ربهم يرزقون)، معناه: حيث لا يقدر لهم أحد على ضر ولا نفع إلا ربهم عز وجل. وليس يعني به قرب المسافة، لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة، إذ هو من صفة الأجسام. وقيل: عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس.
قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) الآية. روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق: " إن الذين قالوا كانوا ركبا وبينهم أبو سفيان ليحبسوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم ". وقال السدي: " هو أعرابي ضمن له جعلا على ذلك "، فأطلق الله تعالى اسم الناس على الواحد على قول من تأوله على أنه كان رجلا واحدا، فهذا على أنه أطلق لفظ العموم وأراد به الخصوص. قال أبو بكر: لما كان الناس اسما للجنس وكان من المعلوم أن الناس كلهم لم يقولوا ذلك، تناول ذلك أقلهم وهو الواحد منهم، لأنه لفظ الجنس، وعلى هذا قال أصحابنا فيمن قال إن كلمت الناس فعبدي حر: إنه على كلام الواحد منهم، لأنه لفظ الجنس، ومعلوم أنه لم يرد به استغراق الجنس فيتناول الواحد منهم.
(٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 ... » »»