أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٦١
باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنع الوصي من استهلاكها قال الله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب). روي عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: (ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) [البقرة: 220]. قال أبو بكر:
وأظن ذلك غلطا من الراوي، لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ، إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ، وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " لما أنزل الله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الأنعام: 152] و (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) [النساء: 10] الآية، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) [البقرة: 220]، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم ". فهذا هو الصحيح في ذلك، وأما قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم) فليس من هذا في شئ، لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتم وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب عهدهم باليتم كما سمى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) [الطلاق: 2] والمعنى مقاربة البلوغ، ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم)، والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ، فعلم أنه أراد بعد البلوغ. وسماهم يتامى لأحد معنيين: إما لقرب عهدهم بالبلوغ، أو لانفرادهم عن آبائهم، مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين فقال الذين قد جربوا الأمور واستحكمت آراؤهم، وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: " إذا أونس منه الرشد انقطع عنه يتمه "، وفي بعض الألفاظ: " إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد "، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيه ولم يؤنس منه رشده، فجعل بقاء ضعف الرأي موجبا لبقاء اسم اليتيم عليه.
واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها، قال
(٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 ... » »»