أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٦٢
النبي صلى الله عليه وسلم: " تستأمر اليتيمة في نفسها "، وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة، وقال الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا أو كهلا لا يسمى يتيما وإن كان ضعيف العقل ناقص الرأي، فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر. والمرأة الكبيرة المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج، والرجل الكبير المسن لا يسمى يتيما من جهة انفراده عن أبيه، وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه، فسمي الصغير يتيما لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله، فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمى يتيما بعد البلوغ، وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكنفه، فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها، لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها، فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سميت يتيمة كما سمي الصغير يتيما لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) [النساء: 34]، كما قال: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط) [النساء: 127] فجعل الرجل قيما على امرأته كما جعل ولي اليتيم قيما عليه. وقد روى علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يتم بعد حلم "، وهذا هو الحقيقة في اليتيم، وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا لما وصفنا.
وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما روي عن ابن عباس يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أنها جائزة للفقراء من اليتامى، لأن اسم اليتيم يدل على ذلك. ويدل عليه ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز وجل: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما)، قال:
السفهاء ابنك السفيه وامرأتك السفيهة، قال: وقوله: (قياما) قيام عيشك. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة، فسمي اليتيم ضعيفا.
ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم، وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ أونس منه الرشد أو لم يؤنس، إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى:
(حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)، فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة، فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم)، فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد، لاتفاق
(٦٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 ... » »»