أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٦٣
المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وإخبار ببقاء حكمها، أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها، فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها، كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وموجبات أحكام العقول، فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام.
مطلب: في الدليل على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله، لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر، إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما، ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شئ.
وقد قيل في معنى قوله: (كانا يأكلان الطعام) أنه كناية عن الحدث، لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة. وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه، وأن ذلك ينفي كونه إلها وقديما.
قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم)، قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة: " لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير ". وقيل: إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الإياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي، لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب. وقيل: إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي.
قوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر، وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي: حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " - إلى قوله فاسقون - ثم قال: " كلا والله! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم
(٥٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 558 559 560 561 562 563 564 565 566 567 568 ... » »»