أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٦١
حول المدينة منهم تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم، فكان مخبره على ما أخبر به، فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين. وإنما ذكر النار ههنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها، على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا برئ من كل مسلم مع مشرك " قيل: لم يا رسول الله؟ قال: " لا تراءى ناراهما "، وإنما عنى بها نار الحرب، يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان. وقيل: إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب، أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها، فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا، فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب. وقد قيل فيه وجه آخر، وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم، أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب، وقال الأعشى:
وأوقدت هذا للحرب نارا قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) فيه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعا وما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه، وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له، وأخبر أنه إن ترك تبليغ شئ منه فهو كمن لم يبلغ شيئا، بقوله تعالى:
(وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام. وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره، بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)، وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم. وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية، لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ، وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس). وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر، نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها، لعموم البلوى بها، فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل، أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث.
(٥٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 556 557 558 559 560 561 562 563 564 565 566 ... » »»