أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٦٨
[البقرة: 225] والمراد به والله أعلم الغموس لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة، إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكسب القلب، ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك؟ فدل على أن قوله: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) [البقرة: 225] المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب، وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة. وذكره للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين، يدل على أن اللغو هو الذي لم يقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى.
مطلب: لا كفارة في اليمين الغموس ومما يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) [آل عمران: 77] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة، فلو أوجبنا فيها الكفارة كان زيادة في النص وذلك غير جائز إلا بنص مثله. وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف على يمين وهو فيها آثم فاجر ليقطع بها مالا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ". وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار ". فذكر النبي صلى الله عليه وسلم المأثم ولم يذكر الكفارة، فدل على أن الكفارة غير واجبة من وجهين، أحدهما: أنه لا تجوز الزيادة في النص إلا بمثله، والثاني: أنها لو كانت واجبة لذكرها كما ذكرها في اليمين المعقودة في قوله عليه السلام: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير منها وليكفر عن يمينه " رواه عبد الرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما. ومما يدل على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة: (واحفظوا أيمانكم) وحفظها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها، ومعلوم امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ.
فإن قال قائل: قوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) يقتضي عمومه إيجاب الكفارة في سائر الأيمان إلا ما خصه الدليل. قيل له: ليس كذلك، لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل، فلا محالة أن فيه ضميرا يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث، وإذا ثبت أن في الآية ضميرا سقط الاحتجاج بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجب بها كفارة قبل الحنث، فثبت أن في الآية ضميرا فلم يجز اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقا بضمير غير مذكور فيها. وأيضا قوله تعالى:
(واحفظوا أيمانكم) يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي
(٥٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 563 564 565 566 567 568 569 570 571 572 573 ... » »»