أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٥٧
بوجوب طاعته عليهم بقوله: (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) [الفتح: 16].
فإن قال قائل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاهم. قيل له: قال الله تعالى:
(فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) [التوبة: 83] فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا. فإن قال قائل: جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم. قيل له: إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية، وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر لأنه هو المستخلف له. فإن قيل: جائز أن يكون علي هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب. قيل له: قال الله تعالى: (تقاتلونهم أو يسلمون) [الفتح: 16] وعلي رضي الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يسلموا أو يعطوا الجزية، ولم يحارب أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يسلموا غير أبي بكر، فكانت الآية دالة على صحة إمامته.
باب العمل اليسير في الصلاة قال الله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) روي عن مجاهد والسدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم: أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع. وروى الحسن أنه قال:
" هذه الآية صفة جميع المسلمين، لأن قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) صفة للجماعة وليست للواحد ". وقد اختلف في معنى قوله: (وهم راكعون) فقيل فيه: إنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية، منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة. وقال آخرون: " معنى: (وهم راكعون) أن ذلك من شأنهم، وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له ". وقال آخرون: " معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أي يتنفل ". فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في إباحة العمل اليسير فيها، فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة، ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده، ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه، ومنها أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها. فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة، لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره: " الذين يتصدقون في حال الركوع " فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال، وإن كان المراد وهم يصلون، فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة، فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة.
(٥٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 552 553 554 555 556 557 558 559 560 561 562 ... » »»