أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٥٣
الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة، فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي.
قوله تعالى: (ومنهاجا) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: " سنة وسبيلا ". ويقال طريق نهج إذا كان واضحا. قال مجاهد: " وأراد بقوله: (شرعة) القرآن، لأنه لجميع الناس "، وقال قتادة وغيره: " شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن ". وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها، لإخباره بأنه جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا. وليس فيه دليل على ما قالوا، لأن ما كان شريعة لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صارت شريعة للنبي عليه السلام، وكان فيما سلف شريعة لغيره، فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع. وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء، فلم ينف قوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) أن تكون شريعة النبي عليه السلام موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين. وإذا كان كذلك، فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها، فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر.
قوله عز وجل: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) قال الحسن: " لجعلكم على الحق "، وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق، ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا، وهو كقوله: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) [السجدة: 13]، وقال قائلون:
" معناه: ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء ".
قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت. وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات، لأنها من الخيرات.
مطلب: الصوم في السفر أفضل من الافطار فإن قيل: فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها، لأنها من الواجبات في أول الوقت. قيل له: ليست من الواجبات في أول الوقت، والآية مقتضية للوجوب، فهي فيما قد وجب وألزم، وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات، وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات.
وقوله تعالى في هذا الموضع: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ليس بتكرار لما تقدم من مثله، لأنهما نزلا في شيئين مختلفين: أحدهما في شأن الرجم، والآخر في
(٥٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 548 549 550 551 552 553 554 555 556 557 558 ... » »»