دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك ". وروى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال: " لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا ". فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة، أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئا، فسخطه فقال شعرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقطعوا عنا لسانه " فزادوه حتى رضي.
وأما الهدايا للأمراء والقضاة، فإن محمد بن الحسن كرهها، وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم، ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فلما جاء قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام نستعملهم على ما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي!
فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا! " وما روي عنه عليه السلام أنه قال: " هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت ". وكره عمر بن عبد العزيز قبول الهدية، فقيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها، فقال: كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت. ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل القضاء، فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يهد له. وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا! " فأخبر أنه إنما أهدي له لأنه عامل، ولولا أنه عامل لم يهد له، وأنه لا يحل له، وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد علم أنه لم يهده إليه لأجل القضاء، فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك. وقد روي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر، فردها عمر ومنع قبولها.
باب الحكم بين أهل الكتاب قال الله تعالى: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) ظاهر ذلك يقتضي معنيين، أحدهما: تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم، والثاني: التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا. وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم، فقال قائلون منهم: " إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم ". وقال آخرون: " التخيير منسوخ، فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير ".