قال أبو بكر: لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا، لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قابله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به، فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى: (والعين بالعين) إلى آخر الآية، استيفاء مثله مما يقابله من الجاني، فغير جائز إذا كان كذلك أن يعتدى إلى غيره، سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما، ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه أن تكون يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل؟ وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل، وليست هذه الأعضاء مماثلة، فغير جائز أن يستوعبها. ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة، وذلك لقوله تعالى: (والجروح قصاص)، وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع، وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز، لأنه رضي بدون حقه.
واختلف في القصاص في العظم، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: " لا قصاص في عظم ما خلا السن ". وقال الليث والشافعي مثل ذلك، ولم يستثنيا السن.
وقال ابن القاسم عن مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه، وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة، وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص ". وقال الأوزاعي: " ليس في المأمومة قصاص ".
قال أبو بكر: لما اتفقوا على نفي القصاص في عظم الرأس كذلك سائر العظام، وقال الله تعالى: (والجروح قصاص)، وذلك غير ممكن في العظام. وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير: أنه اقتص من مأمومة، فأنكر ذلك عليه، ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة. ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس، لأنه لا يوقف على مقدار جنايته، فكذلك العظام. وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم.
قوله تعالى: (فمن تصدق به فهو كفارة له) روي عن عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية: " أنها كفارة لولي القتيل وللمجروح إذا عفوا ".
وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم رواية والشعبي رواية: " هو كفارة للجاني " كأنهم جعلوه بمنزله المستوفي لحقه، ويكون الجاني كأنه لم يجن. وهذا محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة. والقول الأول هو الصحيح، لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور، وهو قوله:
(فمن تصدق به) فالكفارة واقعة لمن تصدق، ومعناه كفارة لذنوبه.