أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٤١
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم ".
قال أبو بكر: اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم، واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى.
مطلب: في وجوه الرشوة والرشوة تنقسم إلى وجوه: منها الرشوة في الحكم، وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الراشي والمرتشي " والرائش وهو الذي يمشي بينهما، فلذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحق له، فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه، واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم، ولا ينفذ حكمه، لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة، كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم. ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه. وفي هذا دليل أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه، كالحج وتعليم القرآن والإسلام، ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائز لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام، فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب. وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين، أحدهما: أخذ الرشوة، والآخر: الحكم بغير حق، وكذلك الراشي.
وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان، وقال: " إن أخذ الرشا على الأحكام كفر ". وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله:
" الرشا من السحت ". وأما الرشوة في غير الحكم، فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان، وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه، قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة: 2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه ". ووجه آخر من الرشوة، وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها. وروي عن جابر بن زيد والشعبي قالا: " لا يأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم "، وعن عطاء وإبراهيم مثله. وروى هشام عن الحسن قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " قال الحسن: " ليحق باطلا أو يبطل حقا، فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس ". وقال يونس عن الحسن: " لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه ". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: " اجعل مالك جنة
(٥٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 536 537 538 539 540 541 542 543 544 545 546 ... » »»