أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٤٥
من الربا والعقود الفاسدة المحظورة، وقال تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت).
فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود، أهل الذمة والمسلمون فيها سواء، إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين. وقال مالك: " الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الاسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم " وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها.
واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم، فقال أبو حنيفة: " هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا، فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا، وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم، فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الاسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم، وكذلك إن أسلموا ". وقال محمد: " إذا رضي أحدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر، إلا في النكاح بغير شهود خاصة ". وقال أبو يوسف: " يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في النكاح بغير شهود نجيزه إذا تراضوا بها ". فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحاتهم، إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم، ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما، وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهم حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية، وفي ذلك دليل أنه أقرهم على مناكحتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل، ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران: " إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله "؟
فلم يقرهم عليه حين علم بتبايعهم به. وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا، ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحاتهم. وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الاعتراض عليهم، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا.
فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه. قيل له: لو كان هذا ثابتا لورد النقل متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به، فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت. ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا، وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا. وأيضا قد بينا أن قوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ناسخ للتخيير المذكور في قوله: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو
(٥٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 540 541 542 543 544 545 546 547 548 549 550 ... » »»