فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية، وروي عن الحسن: " خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم، وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم ". وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: " آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد، وقوله تعالى: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، حتى نزلت: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه ". وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) قال: نسخها قوله: (وأن احكم بينهم بما انزل الله). وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) قال: نسختها: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله). وروى سفيان عن السدي عن عكرمة مثله.
قال أبو بكر: فذكر هؤلاء أن قوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). ناسخ للتخيير المذكور في قوله: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)، ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي، لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد، وإنما طريقه التوقيف، ولم يقل من أثبت التخيير إن آية التخيير نزلت بعد قوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)، وإن التخيير نسخه، وإنما حكى عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ، فثبت نسخ التخيير بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)، كرواية من ذكر نسخ التخيير. ويدل على نسخ التخيير قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44]، الآيات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله. ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) [المائدة: 44] منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد، رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) [المائدة: 44] نسخها ما قبلها: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) منسوخ بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). ويحتمل أن يكون قوله تعالى: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الاسلام بالجزية، فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الاسلام، أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله، فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا: التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم، وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة