أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٢٥
ويدل عليه أيضا أن الكفن يبدأ به على الديون، فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الديون فهو أن لا يملك الكفن أولى، وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكا وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع سارق بيت المال وأخذ الأشياء المباحة التي لا مالك لها.
فإن قال قائل: جواز خصومة الوارث في المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه. قيل له: الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه. ووجه آخر، وهو أن الكفن يجعل هناك للبلى والتلف لا للقنية والتبقية، فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية.
فإن قال قائل: القبر حرز للكفن، لما روى عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف؟ " يعني القبر. قلت: الله ورسوله أعلم! قال: " عليك بالصبر! ". فسمى القبر بيتا. وقال حماد بن أبي سليمان: " يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته ". وروى مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية ". وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من اختفى ميتا فكأنما قتله ". وقال أهل اللغة: المختفي النباش. قيل له: إنما سماه بيتا على وجه المجاز، لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيا ظاهرا على وجه الأرض، وإنما سمي القبر بيتا تشبيها بالبيت المبني، ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقا بكونه سارقا من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيا ليحرز به ما يجعل فيه، وقد بينا أن القبر ليس بحرز، ألا ترى أن المسجد يسمى بيتا، قال الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن يرفع ويذكر فيها اسمه) [النور: 36] ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ؟ وأيضا فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع وإن كان بيتا، فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتا. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لعن الله المختفي " وما روي أنه قال: " من اختفى ميتا فكأنما قتله " فإن هذا إنما هو لعن له، واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع، لأن الغاصب والكاذب والظالم كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم، وقوله: " من اختفى ميتا فكأنما قتله " فإنه لم يوجب به قطعا وإنما جعله كالقاتل، وإن كان معناه محمولا على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله، وهذا لا خلاف فيه، ولا تعلق لذلك بالقطع.
باب من أين يقطع السارق قال الله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب، والدليل عليه أن عمارا تيمم إلى المنكب بقوله تعالى: (فامسحوا
(٥٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 520 521 522 523 524 525 526 527 528 529 530 ... » »»