أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥١٤
وأما قوله تعالى: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض) وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد فيقتل على وجه الدفع ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع وإنما الكلام فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى: (أو فساد في الأرض) على هذا الوجه لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي فلما جاز عند الجميع نفيه دل على أنه غير مستحق للقتل فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل وليس قتلهم هذا قودا لأن القتل يستحق به القتل في الأصول إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله حدا على أنه حق الله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك.
وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول ألا ترى أن السارق تقطع يده فإن عاد فسرق قطعت رجله إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه فكان عند أبي حنيفة له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل وكان جميع ذلك عنده حدا واحدا وكذلك لما استحق القتل والقطع بالقتل وأخذ المال على وجه المحاربة صار جميع ذلك حدا واحدا ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع وإن عفو الأولياء فيه لا يجوز فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا وله أن يقتلهم فيدخل فيه قطع اليد والرجل وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع.
فإن قال قائل هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل أنه يقتل ولا يقطع.
قيل له لما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسبب واحد وهو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ أحد الحدين وليس في مسألتنا درء أحد الحدين وإنما هو حد واحد فلم يلزمنا اسقاط بعضه
(٥١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 509 510 511 512 513 514 515 516 517 518 519 ... » »»