أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥١
في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، أحدها: وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مدد أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم، فينزل الله تعالى على قلوبهم الأمنة، وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة. والثاني: وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الانصراف والرجوع، فكيف في حال المشاهدة وقصد العدو نحوهم لاستيصالهم وقتلهم!. والثالث: تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خص المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين، فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهلع والخوف والقلق والاضطراب، فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين.
قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم)، قيل: إن " ما " ههنا صلة، معناه:
فبرحمة من الله، روي ذلك عن قتادة، كما قال: (عما قليل ليصبحن نادمين) [المؤمنون: 40] وقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) [النساء: 155]. واتفق أهل اللغة على ذلك، وقالوا: معناها التأكيد وحسن النظم، كما قال الأعشى:
فاذهبي ما إليك أدركني الحلم * عداني عن هيجكم إشفاقي وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز، لأن ذكر " ما " ههنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى.
قوله تعالى: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك). يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى، كما قال تعالى:
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل:
125] وقوله تعالى لموسى وهارون: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) [طه:
44].
قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر). اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من الصحابة، فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق: " إنما أمره بها تطييبا لنفوسهم ورفعا من أقدارهم، إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه ". وقال سفيان بن عيينة: " أمره بالمشاورة لتقتدي به أمته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شورى بينهم ".
وقال الحسن والضحاك: " جمع لهم بذلك الأمرين جميعا، في المشاورة ليكون لإجلال
(٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 ... » »»