أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٢
الصحابة ولتقتدي الأمة به في المشاورة ". وقال بعض أهل العلم: " إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شئ بعينه " فمن القائلين بذلك من يقول: إنما هو في أمور الدنيا خاصة، وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول شيئا من أمور الدين من طريق الاجتهاد، وإنما هو في أمور الدنيا خاصة، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة، وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة فينصرفوا فقبل منهم، وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا. وقال آخرون: كان مأمورا بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى، وفي أمور الدنيا أيضا مما طريقه الرأي وغالب الظن، وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أداه إليه اجتهاده، وكان في ذلك ضروب من الفوائد:
أحدها إعلام الناس أن ما لا نص فيه من الحوادث فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن، والثاني: إشعارهم بمنزلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم ويرضى اجتهادهم ويحريهم لموافقة النصوص من أحكام الله تعالى، والثالث: أن باطن ضمائرهم مرضي عند الله تعالى لولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم، فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده صلى الله عليه وسلم في مثله. وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمة به في مثله، لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شووروا فيه وصواب الرأي فيما سئلوا عنه، ثم لم يكن ذلك معمولا عليه ولا متلقى منه بالقبول بوجه، لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها. فهذا تأويل ساقط لا معنى له، فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدي به الأمة مع علم الأمة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئا ولم يعمل فيها بشئ أشاروا به! فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضا أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأيا صحيحا ولا قولا معمولا، لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه، فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأيا صحيحا وقولا معمولا عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وإذ قد
(٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 ... » »»