أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٥٤
وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغلول حتى أجراه مجرى الكبائر، وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من فارقت الروح جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة:
الكبر والغلول والدين ". وروى عبد الله بن عمر: أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له كركرة فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو في النار " فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة ". والأخبار في أمر تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي في إباحة أكل الطعام وأخذ علف الدواب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أخبار مستفيضة، قال عبد الله بن أبي أوفى: " أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل منا يأتي فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف ". وعن سلمان: " أنه أصاب يوم المدائن أرغفة حواري وجبنا وسكينا، فجعل يقطع من الجبنة ويقول: كلوا بسم الله ". وقد روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه "، وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنيا عنه، فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء، وقد روي عن البراء بن مالك: " أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة، فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به ".
قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا). قال السدي وابن جريج في قوله: (أو ادفعوا): " إن معناه بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا "، وقال أبو عون الأنصاري: " معناه ورابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا ". قال أبو بكر: وفي هذا دلالة على أن فرض الحضور لازم لمن كان في حضوره نفع في تكثير السواد والدفع وفي القيام على الخيل إذا احتيج إليهم.
وقوله تعالى: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)، قيل فيه وجهان، أحدهما:
تأكيد لكون القول منهم، إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضيا به على وجه المجاز، كما قال تعالى: (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها) [البقرة: 72] وإنما قتل غيرهم ورضوا به، وقوله تعالى: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) [البقرة: 91] ونحو ذلك.
والثاني: أنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب.
وقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون). زعم قوم أن المراد أنهم يكونون أحياء في الجنة، قالوا: لأنه لو جاز أن ترد
(٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 ... » »»