أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٦٤
الكتاب من قوله تعالى: (أو لامستم النساء) وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد. قيل له: في الآية نص على أحد المعنيين، بل فيها احتمال لكل واحد منهما، ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها، فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه. وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله علي وابن عباس وأبو موسى، ويحتمل اللمس باليد على ما روي عن عمر وابن مسعود، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، أبان ذلك عن مراد الله تعالى. ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع، وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء، كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع، كذلك هذا، ونظيره قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) [البقرة: 237] يعني:
من قبل أن تجامعوهن. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة، ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب، كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية، وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب. وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مس اليد من وجوه، أحدها: اتفاق السلف من الصدر الأول أن المراد أحدهما، لأن عليا وابن عباس وأبو موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد، وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم، فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما. ومن قال إن المراد هما جميعا، فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما. وما روي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة، فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية، بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود، فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها.
ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية، وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا، والجماع يوجب الغسل، وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (والسارق والسارقة) [المائدة: 38] لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة؟ وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه.
فإن قيل: لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادته الجماع واللمس باليد، لأن الواجب فيهما التيمم المذكور في الآية. قيل له: التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء،
(٤٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 459 460 461 462 463 464 465 466 467 468 469 ... » »»