أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٦٩
العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء. وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قيمته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة، إذ لا يحصل بإزائه بدل، فكان إضاعة للمال، لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة، بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه، فكذلك شرى الماء بثمن غال، وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ ولا يجزيه التيمم، من قبل أنه ليس فيه تضييع المال، إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به.
وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء مالا يكفيه لطهارته، فقال أصحابنا جميعا: " يتيمم وليس عليه استعماله، وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم ". وقال مالك والأوزاعي: " لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم، فإن أحدث بعد ذلك وعنده ما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا ". وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة: " يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله ". وقال الشافعي:
" عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم، لا يجزيه غير ذلك ".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إلى قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين: إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه، لأنه أوجبه بهذه الشريطة. ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وأن صلاته غير مجزية إلا به، فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة، إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه. فإن قيل: قال الله تعالى: (فلم تجدوا ماء) فأباح التيمم عند عدم ماء منكور، وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف، فلا يجوز التيمم مع وجوده. قيل له: الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن من فرضه التيمم وإن استعمل الماء، فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله بالآية لما لزمه التيمم معه، لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصح به صلاته.
فإن قيل: فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم.
قيل له: لو كان هذا على ما ذكرت لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه، فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه. وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود، فجاز له التيمم. وأيضا لما لم يجز الجمع بين
(٤٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 464 465 466 467 468 469 470 471 472 473 474 ... » »»