أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٦٧
وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) [آل عمران: 7]، فثبت بذلك أن قوله: " أو لمستم " لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها، وقوله: (أو لامستم) لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما، فوجب أن يكون معنى المتشابه مبنيا عليه.
فإن قيل: لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ: (أو لامستم النساء) والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع، وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا، أحدهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه، والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فتستعملها فيه دون الجماع، ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح، إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجازا ولا كناية صريحا في حال واحدة، ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة. قيل له: لا يجوز ذلك، لأن السلف من الصدر الأول المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا، لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما، وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول. وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما، وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع، فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا، ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا، فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها. وكان أبو الحسن الكرخي يجيب عن ذلك بجواب آخر، وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين، وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام إحداهما مقام الأخرى، ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم، لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز اسقاط شئ منه، ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لا على كله، وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن، وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين، فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام إحداهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتهما وإثباتهما في المصحف معا.
ويدل على أن اللمس ليس بحدث أن ما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء،
(٤٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 462 463 464 465 466 467 468 469 470 471 472 ... » »»