أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٥٩
الجميع، فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ، ألا ترى أن قوله تعالى:
(فاقتلوا المشركين) [التوبة: 5] عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم؟ كذلك ما وصفنا. ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم، لأن الاسم يتناولهم، إذ كان العموم شاملا للجميع، فكذلك قوله تعالى:
(فاطهروا) عموم في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه.
مطلب: يجب استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة فإن قيل: قوله: (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) [النساء: 43] يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه. قيل له: إذا كان قوله: (فاطهروا) يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة، وغير جائز الاقتصار بهما على أخصهما حكما، إذ فيه تخصيص بغير دلالة، ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمى مغتسلا أيضا؟ فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز وجل: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) ويدل عليه من جهة السنة حديث الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة ". وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار " قال علي: فمن ثم عاديت شعري.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبد الله بن سابور والعمري قالوا: حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال: حدثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثة فريضة ". وأما قوله: " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا، أحدهما: أن الأنف فيه شعر وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلهما، وحديث علي أيضا يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعرا.
فإن قيل: إن العين قد يكون فيها شعر. قيل له: هو شاذ نادر، والأحكام إنما تتعلق بالأعم الأكثر، ولا حكم للشاذ النادر فيها، وعلى أنا خصصناه بالإجماع، ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة، والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه.
فإن قيل: إن ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة. قيل له: لم يكن يفعله على وجه الوجوب، وقد كان مصعبا على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها مالا يراه
(٤٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 454 455 456 457 458 459 460 461 462 463 464 ... » »»