الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا، أحدهما: إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء، وإباحة الصلاة به، وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء. ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا. والوجه الآخر من دلالة الآية: قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) إلى آخرها، فأوجب التيمم على من جاء من الغائط، وذلك كناية عن قضاء الحاجة فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء، فدل ذلك على أنه غير فرض. ويدل عليه من جهة السنة حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه " فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء.
ويدل عليه أيضا حديث الحصين الحراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج "، فنفى الحرج عن تارك الاستجمار، فدل على أنه ليس بفرض.
فإن قيل: إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء. قيل له: هذا خطأ من وجهين، أحدهما: أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء، ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة. والثاني: أنه تسقط فائدته، لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار، فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل، هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه.
فإن قيل: في حديث سلمان: " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتزي بدون ثلاثة أحجار "، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " فليستنج بثلاثة أحجار " وأمره على الوجوب، فيحمل قوله:
" فلا حرج " علي مالا يسقط إيجاب الأمر، وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا، لا بأن يتركه أصلا، أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب. قيل له: بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر، فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب، ونستعمل معه قوله صلى الله عليه وسلم:
" ومن لا فلا حرج " في نفي الإيجاب، ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه اسقاط أحدهما أصلا، لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنته نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه. ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز