أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٢٦
ولمن قال بالقول الأول أن يقول: نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه، كما أن شعر الرأس من الرأس، وقد قال الله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين، فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه. ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه، وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها، فلذلك لم يكن من الوجه.
وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها، فروى إسرائيل عن جابر قال: " رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم " وكذلك روي عن طاوس. وروى حريز عن زيد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضي الله عنه توضأ ". وقال يونس: " رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته ". فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا. ورى ابن جريج عن نافع: " أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها "، وكذلك روي عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير. فهؤلاء كلهم روي عنهم غسل اللحية، ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه. وقد كان ابن عمر متقصيا في أمر الطهارة، كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة، وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه خلل لحيته "، وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته وقال: " بهذا أمرني ربي ". وروى عثمان وعمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه خلل لحيته في الوضوء ". وروى الحسن عن جابر قال: " وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا، فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط ". قال أبو بكر: وروي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية، منها حديث عبد خير عن علي، وحديث عبد الله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم، كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه. وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية، وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه، والوجه ما واجهك منه، وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب، فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق، وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على
(٤٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 421 422 423 424 425 426 427 428 429 430 431 ... » »»