أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٢٨
إلى المنكب، والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال: " تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب " وكان ذلك لعموم قوله: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)، ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة، فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب. وإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية، كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين: أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها، إذ لم تقم الدلالة على سقوطها. والثاني: أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى، والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) [البقرة: 222] ووجود الطهر شرط في الإباحة، وقال: (حتى تنكح زوجا غيره) [البقرة: 230] ووجوده شرط فيه، و " إلى " و " حتى " جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] والليل خارج منه، فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجوب غسل المرفقين، إذ كانت الغاية مشكوكا فيها. وأيضا روى جابر بن عبد الله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما " وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان، لأن قوله تعالى:
(إلى المرافق) لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب. والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا، إلا زفر فإنه يقول: إن المرافق غير داخلة في الوضوء، وكذلك الكعبان على هذا الخلاف.
وقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم)، قال أبو بكر: اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس، فروي عن أصحابنا فيه روايتان، إحداهما: ربع الرأس، والأخرى:
مقدار ثلاثة أصابع، ويبدأ بمقدم الرأس. وقال الحسن بن صالح: " يبدأ بمؤخر الرأس ".
وقال الأوزاعي والليث: " يمسح مقدم الرأس ". وقال مالك: " الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز ". وقال الشافعي: " الفرض مسح بعض رأسه ". ولم يحد شيئا.
وقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) يقتضي مسح بعضه، وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني، فمتى أمكننا استعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك، وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة نحو " من " هي مستعملة على معان منها التبعيض، ثم قد تدخل في الكلام وتكون ملغاة وجودها وعدمها سواء. ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها، فقلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام
(٤٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 423 424 425 426 427 428 429 430 431 432 433 ... » »»