أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٢٣
الغسل عما يقع منه عن الوضوء، وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز، إذ كان المقصد منه إيقاع الفعل كما قيل: لا تصل حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك، ولا تصل إلا مستور العورة، وليس يقتضي شئ من ذلك إيجاب النية فيه.
ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه الأعرابي الصلاة وقوله: " لا تتم صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه "، فقوله: " حتى يضع الطهور مواضعه " يقتضي جوازه بغير نية، لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن، فصار كقوله: حتى يغسل هذه الأعضاء، وقوله: " فيغسل وجهه ويديه " يوجب ذلك أيضا، إذ لم يشرط فيه النية، فظاهره يقتضي جوازه على أي وجه غسله. ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابي كان جاهلا بأحكام الصلاة والطهارة، فلو كانت النية شرطا فيها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم من التوقيف عليها، وفي ذلك أوضح دليل على أنها ليست من فروضها.
ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة لأم سلمة: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات وعلى سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت "، ولم يشرط فيه النية. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، فأشار إلى الفعل المشاهد دون النية هي ضمير لا تصح الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به، وقال: " إذا وجدت الماء فامسسه جلدك "، وقال: " إن تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وانقوا البشرة ". ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة بالماء كغسل النجاسة، وأيضا هو سبب يتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره، فأشبه غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر، ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره.
فإن احتجوا بقوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [البينة:
45] وذلك يقتضي إيجاب النية له، لأن ذلك أقل أحوال الإخلاص. قيل له: ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادة أو أنه من الدين، إذ جائز أن يقال إن العبادات هي ما كان مقصودا لعينه في التعبد، فأما ما أمر به لأجل غيره أو جعل شرطا فيه أو سببا له فليس يتناوله هذا الاسم، ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة، فلما لم يجز أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأمورا به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة.
(٤٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 418 419 420 421 422 423 424 425 426 427 428 ... » »»