أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤١٢
إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) [الأنعام: 155] فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان، فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف، ألا ترى أن من قال: إنما لي على فلان جبتان، لم يكن له أن يدعي أكثر منه؟ وقول القائل: إنما لقيت اليوم رجلين، ينفي أن يكون قد لقي أكثر منهما؟. فإن قيل: إنما حكى الله ذلك عن المشركين، وجائز أن يكونوا قد غلطوا. قيل له: إن الله لم يحك هذا القول عن المشركين، ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين، فهذا إنما هو قول الله واحتجاج منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن. وأيضا فإن المجوس لا ينتحلون شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه، وإنما يقرؤون كتاب زرادشت وكان متنبيا كذابا، فليسوا إذا أهل كتاب.
ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر: ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب! فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".
فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب، ولم يخالفه عبد الرحمن ولا غيره من الصحابة.
وروى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "، فلو كانوا أهل الكتاب لما قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولقال: هم من أهل الكتاب.
وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".
فإن قيل: إن لم يكونوا أهل كتاب فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ". قيل له: إنما قال ذلك في الجزية خاصة، وقد روي ذلك في غير هذا الخبر. وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال:
كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الاسلام، قال: " فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم ". وقد روي النهي عن صيد المجوس عن علي وعبد الله وجابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن المسيب وأبي رافع وعكرمة، وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب. ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحب الروم: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم "، وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب. وروي في قوله تعالى: (الم غلبت الروم) [الروم: 2] أن المسلمين أحبوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب وأحبت قريش غلبة فارس لأنهم جميعا ليسوا بأهل كتاب، فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه، والقصة في ذلك مشهورة. وأما من قال إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب، فإن هذا لا يصح ولا يعلم ثبوته، وإن ثبت أوجب أن لا
(٤١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 407 408 409 410 411 412 413 414 415 416 417 ... » »»