أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٦٩
ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه، فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الاسلام. وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع، وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف، فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض، وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله، ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه مكروه منهم، فجائز أن يكون أراد بقوله: " لا حلف في الاسلام " هذا الضرب من الحلف. وقد كانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الاسلام لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين، فلما أعز الله الاسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة: 71]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" المؤمنون يد على من سواهم "، وقال: " ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ".
فزال التناصر بالحلف وزال الجوار، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: " ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار "، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا حلف في الاسلام ". وأما قوله: " وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الاسلام إلا شدة " فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها، نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبد المطلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وأني أغدر به: هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه، ولو دعيت إلى مثله في الاسلام لأجبت وهو حلف الفضول ". وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسي في المعاش، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الاسلام لأجاب، لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك، وهو شئ مستحسن في العقول، بل واجب فيها قبل ورود الشرع، فعلمنا أن قوله: " لا حلف في الاسلام " إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حضرت حلف المطيبين وأنا غلام، وما أحب أن
(٣٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 364 365 366 367 368 369 370 371 372 373 374 ... » »»