فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل، واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك، وذلك معدوم في الماضي، ألا ترى أن من قال: " والله لأكلمن زيدا " فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه؟ وكذلك لو قال: " والله لا كلمت زيدا " كان مؤكدا به نفي كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفي أو إثبات، فسمي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به، ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه. ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا، وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام.
ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي، أن ضد العقد هو الحل، ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه، فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس يعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل.
مطلب: شرط انعقاد البر إمكان البر إمكانا عقليا فإن قيل: قوله " إن دخلت الدار فأنت طالق " و " أنت طالق إذا جاء غد " هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ. قيل له: جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل، ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال: " إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر " وليس في الكوز ماء، أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا، لأنه ليس له نقيض من الحل، ولو قال: " إن لم أصعد السماء فعبدي حر " حنث بعد انعقاد يمينه، لأن لهذا العقد نقيضا من الحل، وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه، لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول، إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا، وكذلك تركه معقول جائز، وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا.
وقد اشتمل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان، وهو نظير قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) [النحل: 91] وقوله تعالى: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) [البقرة: 40] وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه. وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) أي بعقود الله فيما حرم وحلل، وعن الحسن قال:
" يعني عقود الدين ". واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجازات والنكاحات وجميع