أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٦٣
وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها.
مطلب: ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه فإن قيل: فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه؟ قيل له: قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه، من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي، وترك حضور الجنازة لما معها من النوح، وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب، فإذا لم يكن هناك شئ من ذلك فالتباعد عنهم أولى، وإذا كان هناك حق يقوم به ولم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته. وقال قائلون: إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله، لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم. وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب:
إنه لا ينبغي له أن يخرج، وقال: لقد ابتليت به مرة. وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح، فانصرف ابن سيرين، فذكر ذلك للحسن فقال: إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع. وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره، وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له. وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني قال:
حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال: سمع ابن عمر مزمارا فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا، فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا ". وهذا هو اختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره، فأما أن يكون واجبا فلا.
قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)، روي عن علي وابن عباس قالا: " سبيلا في الآخرة ". وعن السدي: " ولن يجعل الله لهم عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ".
ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج، لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج، وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح كما قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء) [النساء: 34]، فاقتضى قوله
(٣٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 368 ... » »»