أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٥٧
الحق لاستخراج حقه منه وايصاله إليه، وهو مثل قوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) [البقرة: 283]، وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه، بقوله تعالى: (ولو على أنفسكم)، لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه، فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق.
وقوله تعالى: (أو الوالدين والأقربين) فيه أمر بإقامة الشهادة على الوالدين والأقربين. ودل على جواز شهادة الانسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة، وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما، وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك، لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال صلى الله عليه وسلم: " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " فقيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: " ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه "، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ". وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز، وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك.
وقوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه، فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع، فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم.
وقوله تعالى: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) يعني لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء، وهو نظير قوله تعالى: (إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) [ص: 26]، وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره، وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه.
وقوله تعالى: (وإن تلووا أو تعرضوا) فإنه يحتمل ما روي عن ابن عباس: " أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون ليه وإعراضه على أحدهما ". واللي هو الدفع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته "، يعني مطله ودفع الطالب عن حقه. فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية، ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها، وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا
(٣٥٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 352 353 354 355 356 357 358 359 360 361 362 ... » »»