أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٤٦
فإن قيل: روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس. قيل له: المشهور عن ابن مسعود أن دلوك الشمس هو غروبها، ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا، لأن الله تعالى قال: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) [الإسراء: 78] فجعل الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره، ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية. وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته، ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق، وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية. وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس: " أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس "، وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال، إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال: أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول: " غسق الليل اجتماع الليل وظلمته "، وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب من قبل أن وقت الغروب لا يكون ظلمة مجتمعة. وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل أنه انتصافه، وعن إبراهيم:
غسق الليل العشاء الآخرة.
وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض، وذلك لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب، فيصير تقدير الآية: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل، وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل. ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد ما لم يفدناه لو قال: إلى الليل، فتكون الفائدة فيه اجتماع الظلمة دون وجود الليل عاريا من اجتماعها.
ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس "، فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل أوقاتها، وأخبر عنها في أواخرها، وذكر في أول الوقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق، ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك، فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض. ومن يأبى هذا القول يقول: إن قوله: " حين اسود الأفق " لا ينفي بقاء البياض، لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها، ولو أراد غيبوبة البياض لقال: حين اسودت الآفاق، وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة. ويحتج القائلون بالبياض أيضا
(٣٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 341 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 ... » »»