أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٥
واحدة، إذ ليس فيه ما يوجب تكرارا، فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية. وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان: قال أبو داود - هو الدؤلي - عن ابن عباس: إن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال: " بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع ".
قوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). روى وكيع عن فطر بن خليفة عن نفيع أبي داود قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (ومن كفر) قال: " هو إن حج لا يرجو ثوابه وإن حبس لا يخاف عقابه ". وروى مجاهد من قوله مثله. وقال الحسن: " من كفر بالحج ". وقد دلت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر، لأن الله تعالى جعل من وجد زادا وراحلة مستطيعا للحج قبل فعله، ومن مذهب هؤلاء أن من لم يفعل الحج لم يكن مستطيعا له قط، فواجب على مذهبهم أن يكون معذورا غير ملزم إذا لم يحج، إذ كان الله تعالى إنما ألزم الحج من استطاع وهو لم يكن مستطيعا قط إذ لم يحج، ففي نص التنزيل واتفاق الأمة على لزوم فرض الحج لمن كان وصفه ما ذكرنا من صحة البدن ووجود الزاد والراحلة ما يوجب بطلان قولهم.
قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء). قال زيد بن أسلم: " نزلت في قوم من اليهود كانوا يغرون بين الأوس والخزرج بذكرهم الحروب التي كانت بينهم حتى ينسلخوا من الدين بالعصبية وحميته الجاهلية ". وعن الحسن: " أنها نزلت في اليهود والنصارى جميعا في كتمانهم صفته في كتبهم ".
فإن قيل: قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم، فلا يصح لكم الإحتجاج بقوله: (لتكونوا شهداء على الناس) [البقرة: 143] في صحة إجماع الأمة وثبوت حجته. قيل له: إنه جل وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم، وقال هناك: (لتكونوا شهداء على الناس) [البقرة: 143] كما قال: (ويكون الرسول عليكم شهيدا) [البقرة: 143] فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم، وقال في هذه الآية: (وأنتم شهداء) ومعناه غير معنى قوله: (شهداء على الناس) [البقرة: 143] وقد قيل في معناه وجهان، أحدهما: (وأنتم شهداء) إنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى، وذلك في أهل الكتاب منهم. والثاني: أن يريد بقوله: (شهداء) عقلاء، كما قال الله تعالى: (أو ألقى السمع وهو شهيد) [ق: 37] يعني: وهو عاقل،
(٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 ... » »»