محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب وغيره، أنها حين نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله! فحمل النبي صلى الله عليه وسلم عليها أسامة بن زيد فكان زيد أوجد في نفسه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال: " أما الله تعالى فقد قبلها ". وروي عن الحسن أنه قال: " هو الزكاة الواجبة وما فرض الله تعالى في الأموال ".
قال أبو بكر: عتق ابن عمر للجارية على تأويل الآية على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القربة إلى الله فهو من النفقة المراد بالآية، ويدل أيضا على أن ذلك كان عنده عاما في الفروض والنوافل، وكذلك فعل أبي طلحة وزيد بن حارثة يدل على أنهم لم يروا ذلك مقصورا على الفرض دون النفل، ويكون حينئذ معنى قوله تعالى: (لن تنالوا البر) على أنكم لن تنالوا البر الذي هو في أعلى منازل القرب (حتى تنفقوا مما تحبون) على وجه المبالغة في الترغيب فيه، لأن الانفاق مما يحب يدل على صدق نيته، كما قال تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) [الحج: 37]. وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يرد به نفي الأصل وإنما يريد به نفي الكمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد ما ينفق ولا يفطن له فيتصدق عليه "، فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة.
قوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه).
قال أبو بكر: هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مباحا لبني إسرائيل إلى أن حرم إسرائيل ما حرمه على نفسه. وروي عن ابن عباس والحسن أنه أخذه وجع عرق النساء فحرم أحب الطعام إليه إن شفاه الله على وجه النذر، وهو لحوم الإبل. وقال قتادة:
" حرم العروق ". وروي أن إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - نذر إن برئ من عرق النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه، وهو لحوم الإبل وألبانها. وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل، لأنهم لا يرون النسخ جائزا، فأنزل الله هذه الآية وبين أنها كانت مباحة لإبراهيم وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه، وحاجهم بالتوراة، فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدق ما أخبر أنه فيها، وبين بذلك بطلان قولهم في إباء النسخ، إذ ما جاز أن يكون مباحا في وقت ثم حظر جازت إباحته بعد حظره. وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم