أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٣
يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بفعل الحج الذي أخبرت أنه قد لزمه يدل على لزومه أيضا.
وقد اختلف في حج الفقير، فقال أصحابنا والشافعي: " لا حج عليه وإن حج أجزأه من حجة الاسلام ". وحكي عن مالك: " أن عليه الحج إذا أمكنه المشي ". وروي عن ابن الزبير والحسن: " أن الاستطاعة ما تبلغه كائنا ما كان ". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الاستطاعة الزاد والراحلة " يدل على أن لا حج عليه، فإن هو وصل إلى البيت مشيا فقد صار بحصوله هناك مستطيعا بمنزلة أهل مكة، لأنه معلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لمن بعد من مكة، فإذا حصل هناك فقد استغنى عن الزاد والراحلة للوصول إليه، فيلزمه الحج حينئذ، فإذا فعله كان فاعلا فرضا.
واختلف في العبد إذا حج هل يجزيه من حجة الاسلام، فقال أصحابنا: " لا يجزيه ". وقال الشافعي: " يجزيه ". والدليل على صحة قولنا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن سليم قال: حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله تعالى يقول: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن شرط لزوم الحج ملك الزاد والراحلة، والعبد لا يملك شيئا فليس هو إذا من أهل الخطاب بالحج. وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستطاعة أنها الزاد والراحلة هي على ملكهما على ما بين في حديث علي رضي الله عنه. وأيضا فمعلوم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم في شرطه الزاد والراحلة أن يكون ملكا للمستطيع، وأنه لم يرد به زادا وراحلة في ملك غيره، وإذا كان العبد لا يملك بحال لم يكن من أهل الخطاب بالحج، فلم يجزه حجه.
فإن قيل: ليس الفقير من أهل الخطاب بالحج لعدم ملك الزاد والراحلة، ولو حج جاز حجه، كذلك العبد. قيل له: إن الفقير من أهل الخطاب، لأنه ممن يملك، والعبد ممن لا يملك، وإنما سقط الفرض عن الفقير لأنه غير واجد لا لأنه ليس ممن يملك، فإذا وصل إلى مكة فقد استغنى عن الزاد والراحلة وصار بمنزلة سائر الواجدين الواصلين إليها بالزاد والراحلة، والعبد إنما سقط عنه الخطاب به لا لأنه لا يجد لكن لأنه لا يملك، وإن ملك فلم يدخل في خطاب الحج فلذلك لم يجزه، وصار من هذا الوجه بمنزلة الصغير الذي لم يخاطب بالحج لا لأنه لا يجد ولكنه ليس من أهل الخطاب بالحج، لأن من شرط الخطاب به أن يكون ممن يملك كما أن من شرطه أن يكون ممن يصح خطابه
(٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 ... » »»