كانوا عبدة أوثان، فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الاسلام، فكان يقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم "، وإنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود، لأن اليهود قد كانوا يقولون: " لا إله إلا الله " وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيثبتونه ثلاثة، فعلمنا أن قول: " لا إله إلا الله " إنما كان علما لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقا له فيما دعاهم إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) [الصافات: 35]، واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى أظهر منهم مظهر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ولم يقل إني داخل في الاسلام ولا برئ من اليهودية ولا من النصرانية، لم يكن بذلك مسلما. وأحسب أني قد رأيت عن محمد مثل هذا، إلا أن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد، ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم، ومنهم من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه لم يبعث بعد وسيبعث، فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إني داخل في الاسلام أو يقول إني برئ من اليهودية أو النصرانية، فقوله عز وجل: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا) لو خلينا وظاهره لم يدل على أن فاعل ذلك محكوم له بالإسلام، لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الاسلام ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك، ألا ترى أنه قال: (إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي عن نفي سمة الإيمان عنه، وليس في النهي عن نفي سمة الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به، ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجل لا نعرف حاله لم يجز لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم حاله؟ وكذلك لو أخبرنا مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه، ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقا منا له، كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله. إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد