هذا وإن كثير من كتب التفسير قد لهج بأكذوبة شنيعة وهى ما زعموا من أن الرسول (ص) قرأ سورة النجم في مكة في محفل من المشركين حتى إذا قرأ قوله تعالى: " أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى " قال (ص) في تمجيد هذه الأوثان وحاشا قدسه: " تلك الغرانيق الأولى منها الشفاعة ترتجى " فأخبره جبرائيل بما قال فاغتم لذلك فنزل عليه في تلك الليلة آية تسلية ولكن بماذا تسلية بزعمهم تسلية بما يسلب الثقة من كل نبي وكل رسول في قراءته وتبليغه. والآية هي قوله تعالى في سورة الحج " 51 وما أرسلنا من قبلك من نبي ولا رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فقالوا معنى ذلك إذا تكلم أو حدث أو تلا وقرأ أدخل الشيطان ضلاله في ذلك.
إذن فما حال الأمم المساكين وما حال هداهم مع هذا الإدخال الذي لم يسلم بزعمهم منه نبي أو رسول ولم يسلم منه شئ من كلامهم أو حديثهم أو تلاوتهم على ما يزعمون " ما هكذا تورد يا سعد الإبل " أفلا صدهم من ذلك أقلا أن سورة الحج مدنية أمر فيها بالأذان بالحج 27 وأذن فيها بالقتال 40 وأمر فيها بالجهاد 77 ولم يكن هذا الأمر وهذا الإذن إلا بعد الهجرة بأعوام. وإن الذي بين ذلك وبين الوقت الذي يجعلونه لخزانة الغرانيق وخرافة نزول الآية هذه في ليلتها يكون أكثر من عشرة أعوام وقد ذكر شئ من الكلام في ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 123 - 129 فلا بأس بمراجعته.
ومن ذلك أن جملة من المفسرين والقراء يترددون في الوقف على بعض الكلمات لترددهم في ارتباطها بما بعدها أو بما قبلها. فلم يراعوا في ذلك مناسبات الكلام وجودته والحاجة إلى التقدير أو حسنه.. ومن ذلك كلمة " فيه " من قوله تعالى في أول سورة البقرة " ذلك الكتاب لا ريب فيه " زعما منهم أنها تكون خبرا مقدما لقوله تعالى " هدى للمتقين " ويقدرون مثلها لقوله تعالى " لا ريب " مع أن الوقف على " لا ريب " يجعل الكلام قلقا مبتورا بنحو لا يجدى فيه التقدير. ومع أنه لا حاجة لجعل الظرف خبرا. مقدما ل " هدى " وجملته تكون خبرا ثانيا ل " ذلك الكتاب " فإن كلمة " هدى " هي بنفسها خبرا. وهذا هو الأنسب بكرامة الكتاب المجيد فقد قال الله إنه هدى ورحمة كما في الأعراف 50 والنحل 66 و 91 وغير ذلك وإن القرآن هدى وبشرى للمؤمنين وهدى للناس وهدى ورحمة للمؤمنين وللذين آمنوا هدى وشفاء كما في سورة البقرة 91 و 181 والنمل 29 ورحم السجدة 44.
ومن ذلك كلمة " هذا " من قوله تعالى في سورة " يس " من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن. فكأنهم لا يلتفتون إلى أن المقام غنى عن وصف المرقد باسم الإشارة حتى للإيضاح لأنهم يقولون ذلك عند خروجهم من الأجداث ومراقد القبور. وإن أخراج اسم الإشارة عن كون مبتدءا " وما وعدنا " خبره ليخرج الكلام عن الانتظام ويجعل صورته الحسنى مشوشة هي للنفي أقرب منها للإثبات وهو ضد المعنى الذي سيقت لبيانه الآية. هذا وأما الذين تهاجموا بآرائهم على تفسير القرآن بما يسمونه تفسير الباطن ركونا بآرائهم إلى مزاعم المكاشفة والوصول ونزعات التفلسف أو التجدد أو حب الانفراد والشهرة بالقول الجديد وإن كان فيها ما فيها فقد آثروا متاهة الرأي على النهج السوي من أصول العلم وفارقوه من أول خطوة.
(المقام الرابع) إن القرآن الكريم كثيرا ما ينسب التعقل والإدراك والاهتداء ونحو ذلك إلى القلب والمتجددون ينسبون الإدراك آثاره وإلى الدماغ ويعتمدون في حد منهم في ذلك على أنهم رأوا فلا فيف الدماغ أي عقده في الإنسان أكثر منها في سائر الحيوانات وإن الأعصاب الجمجمية المتصلة بظاهر الدماغ والمنتشرة أليافها في باطنه مرتبطة بأعصاب آلات الحس كالأذن والعين وغيرهما مباحث التشريع تقف دون حدسهم هذا. فإن المجموع العصبي والنخاع الممتد إلى الفقرة القطنية الأولى التي هي تحت الفقرة ولكن الثانية عشرة من الظهر هذه كلها كمخ الدماغ في كونها مكونة من الجوهر السنجابي والجوهر الأبيض فلا ميزة لتكوين