الوجهين السابقين فإن أريد بالوحي الخلق والايجاد رجع إلى أول الوجهين وإن أريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما.
والذي وقع في كلامه تعالى من الامر المتعلق بوجه بالسماء يلوح إلى معنى أدق مما ذكروه فقد قال تعالى: " يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه " ألم السجدة: 5، وقال: " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الامر بينهن " الطلاق: 12، وقال: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين " المؤمنون: 17.
دلت الآية الأولى على أن السماء مبدء لامره تعالى النازل إلى الأرض بوجه والثانية على أن الامر يتنزل بين السماوات من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى الأرض، والثالثة على أن السماوات طرائق لسلوك الامر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للامر إلى الأرض كما يشير إليه قوله: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " القدر: 4، و قوله: " فيها يفرق كل أمر حكيم " الدخان: 4.
ولو كان المراد بالامر أمره تعالى التكويني وهو كلمة الايجاد كما يستفاد من قوله:
" إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن " يس: 82، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أن الامر الإلهي الذي مضيه في العالم الأرضي هو خلق الأشياء وحدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى وتسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزله من سماء إلى سماء حتى تنتهي به إلى الأرض.
وإنما تحمله ملائكة كل سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله: " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " سبأ: 23 وقد تقدم الكلام فيه والسماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله: " وكم من ملك في السماوات " النجم: 26، و قوله: " لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب " الصافات: 8.
فللأمر نسبة إلى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، ونسبة إلى كل قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم وهو وحيه إليهم فإن الله سبحانه سماه قولا كما قال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن " النحل: 40.
فتحصل بما مر أن معنى قوله: " وأوحى في كل سماء أمرها " أوحى في كل